أهلاً بك, ضيف! التسجيل RSS

بوابة المخطط العمراني

الأحد, 25 ديسمبر 21
الرئيسية » مقالات » مقالات منشورة محليا

مَن يوقف تمدد المدن؟

انتفاخ المدن وتضخمها وتمددها الهائل ليست عنوان التحضر والتمدن كما يتوهم البعض، إنما هي في حقيقة الأمر غياب لإدارة المدن بمعناها الشمولي كإدارة مسؤولة عن رعاية مصالح سكان المدينة في نطاق جغرافي محدد. فالأصل أن الحجم المثالي للمدينة يتحقق عندما تتساوى التكلفة الحدية مع المنفعة الحدية للزيادة السكانية. فلا تكون المدينة صغيرة لا تقوى على الاستفادة من المشاريع والخدمات العامة التي بطبيعتها تستلزم تقديمها عند حجم إنتاج كبير، ولا بالكبيرة يتجاوز فيها استخدام المشاريع والبنى التحتية قدرتها الاستيعابية لتتهالك بسرعة ويصعب صيانتها. والمدن أشبه بحافلات النقل العام، فإذا لم يكن هناك عدد كاف من الركاب كانت أقل كفاءة، وإن كان عدد الركاب أكثر من السعة الاستيعابية تضايقوا وتعطلت الحافلة. ولا شك أن المدن السعودية الرئيسة بلغت حجما يفوق قدرتها على تقديم خدمات متميزة، بل حتى الحد الأدنى الذي يلبي احتياجات السكان. فها هي الشوارع والطرقات تزدحم بأرتال السيارات حتى لا تقوى على الحركة. ألا يكفي ذلك مؤشرا لترهل المدن وعجزها عن مجاراة هذا الارتفاع الكبير في عدد السكان والتمدد المكاني ليصل 100 كيلو متر طولا وعرضا؟ إنه ضد المنطق أن تتركز المشاريع التنموية في مدن بعينها لتجتذب سكان المناطق من حولها ومن ثم تغص بهم. هذا التجمع السكاني يكون سوقا جذابة للشركات لبيع منتجاتها وفي الوقت ذاته وفرة العمالة وسهولة الحصول عليها، وهكذا تتهافت الشركات على إنشاء مقارها ومصانعها في المدن لتستمر عملية الجذب بعشوائية حتى تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه. ولو كان الأمر يتوقف عند ارتفاع معدلات التلوث والازدحام المروري أو حتى الجريمة، لكان الأمر مستوعبا نوعا ما، لكن الموضوع في حقيقة الأمر يمس الأمن الوطني ويعرضه للخطر. فالكثافة العالية للمدن تعني الاحتكاك بين عدد كبير من الناس في مكان ضيق وهو سيقود بطبيعة الحال نحو نشأة نمط استهلاك جديد وثقافة جديدة ورؤى مشتركة فيما بينهم، وربما دفع بعضهم البعض في المطالبة بتحقيق تلك التطلعات بأسلوب عدائي يصل حد الشغب. وإذا ما أضفنا حالة الفقر الحضري التي تعانيها بعض أحياء المدن التي هي من إفراز هذا النمو الحضري السريع فإن مستقبل المدن ينذر بسوء. والأدهى والأمر أن بعض المدن لا تملك مقومات النمو الطبيعية وفي مقدمتها وفرة المياه لتكون عالة على مناطق أخرى وتظل هي تنمو دون إدراك لمخاطر هذا النمو الذي ربما يقتلها يوما ما.

لكن السؤال: لماذا المدن تكبر وتتعدى الحجم المناسب اقتصاديا واجتماعيا؟ والجواب ببساطة ليست هناك إدارة شاملة للمدينة، وهي تدار بالتجزئة من خلال عدد كبير من الأجهزة البيروقراطية ليتحول القرار العام من السكان عبر مجالس نيابية إلى تلك البيروقراطيات التي لا تتوانى ولو للحظة لزيادة ميزانياتها وتضخيمها ليس بالضرورة من أجل الناس، لكن من أجل مكانة الجهاز ووجاهته. تضخم البيروقراطيات يقود إلى تضخم المدن، لأنه ليس هناك نظرة مشتركة وشاملة للقضايا والمشكلات المحلية، بل ربما أدى التشرذم الإداري إلى سياسات وتشريعات متضاربة، بل متضادة تقلل من العمل الحكومي. فالمشكلات المحلية متداخلة ومعقدة وتحتاج إلى حلول شمولية وليس إلى حلول مجزئة. كما أن غياب إدارة للمدينة أدى إلى غياب مسؤولية إدارة النمو. إضافة إلى عدم الربط بين النمو وتكلفته المباشرة على السكان شجع الكثيرين على النزوح إلى المدن، وفي الوقت ذاته شجع سكانها على طلب المزيد من الخدمات والتوسع. وهكذا يستمر جميع الأطراف دون استثناء في الدفع نحو تضخم المدينة لأن لا أحد يملك النظرة المشتركة التي تعي المشكلة من منظور جماعي.

إن مشكلة تضخم المدن تكمن في أنه ما زال ينظر للمدن كمستقرات عمرانية وليس كوحدات سياسية. والمقصود بالوحدات السياسية أن تكون هناك حدود مكانية موثقة قانونا وتكون إدارة المدن مسؤولة عن رعاية مصالح السكان في ذلك الحيز المكاني. والسبيل إلى رعاية مصالح سكان المدينة هو عبر تحقيق تطلعاتهم واحتياجاتهم وبما يتفق مع أولويات التنمية المحلية. فليس العبرة بوفرة الخدمات، لكن بنوعيتها وجودتها ومدى استجابتها لمتطلبات المجتمع المحلي. والسبيل إلى ذلك إنشاء هيئة محلية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري تتولى إدارة جميع قطاعات المدينة. والمتفحص للوضع الإداري للمدن يجد العجب العجاب، فعلى سبيل المثال عواصم المناطق لا يوجد فيها جهاز بلدي ولا محافظ! وربما ظن البعض خطأ أن الأمانة أو إمارة المنطقة هي المسؤولة عن إدارتها، لكن الأمانة والإمارة إدارتان إقليميتان، أي مسؤولتان عن المنطقة كنطاق جغرافي وليس المدينة. كما أن المجالس البلدية معنية فقط بالخدمات البلدية التقليدية وليس إدارة المدينة بجميع قطاعاتها. وإذا كان هذا الغياب لإدارة المدن أو قصورها لا يكفي كمشكلة فإن تعدد المرجعيات للوحدات الإدارية هو القاصمة حتى إن كل قطاع له توزيعه الجغرافي الذي يختلف عن القطاعات الأخرى.

هذا الوضع الإداري المحلي الذي يعج بالتناقضات مخيف حتى إن بدا لأولئك الذين ينعمون بمنطقة الراحة ولا يستشعرون المتغيرات والمستجدات على الساحتين الداخلية والخارجية، إن الأمر بسيط ولا يعيرونه الاهتمام الكافي، فالسفينة تبدو صغيرة وهي في الأفق البعيد لكنها في حقيقة الأمر كبيرة. ولذا ليست الأمور كما تبدو للوهلة الأولى، وإذا لم تتم معالجة القصور في إدارة المدن بتطوير مؤسسي جذري فإن المشكلات ستتراكم مع مرور الزمن وتتحول إلى طود كبير وربما عجزنا عن معالجتها. المدن هي مكان الفعل الاجتماعي، وهي جذور التنمية الاقتصادية، وكفاءة وفاعلية العمل الحكومي تبدأ منها وتنتهي إليها، وهي في الوقت ذاته تمثل ثقلا سياسيا يجب أخذها على محمل الجد. الوقت موات لاتخاذ سياسات تحد من النمو الحضري وتعيد التوازن بين المناطق لتكون المدن أكثر راحة للسكان وأكثر إنتاجية يتحقق فيها وبها الأمن والأمان. إدارة المدن عنصر الاستقرار الأول ومؤشر نجاح التنمية .. فهل نتحول بالمدن من التمدد إلى الاستدامة؟ هذا سؤال صعب وتكمن صعوبته في أنه لا أحد يملك حق الإجابة.



المصدر: http://www.aleqt.com/2012/06/02/article_662952.html
الفئة: مقالات منشورة محليا | أضاف: urbanplanner (12 يونيو 21) | الكاتب: د. عدنان بن عبد الله الشيحة E
مشاهده: 830 | وسمات: ادارة عمرانية | الترتيب: 0.0/0
مجموع المقالات: 0
الاسم *:
Email:
كود *: